المحاسبة مهنة ذاك الموظف الرزين، الهادئ، الذي يدقق أوراق بين يديه بعناية، وخلفه أرشيف ضخم من المستندات والقيود والوثائق، يعلم قصة كل ورقة ووثيقة فيه، ويستطيع أن يحدثك عن كل مستند باستفاضة ودقة ولو عاد لسنين ماضية، أتحدث عن "المحاسب" الذي لا تتصدر انتخابات نقابته قائمة الأخبار وتثير كل ذلك السجال والصخب الذي تفعله نقابات المحامين والأطباء والمهندسين والمعلمين، ولا تقل أهمية المحاسبة عن مهن أولئك الأعزاء الذين لا يتذكرون مكونات وجبة فطورهم، فالمحاسبة "لغة المال والاعمال" والعمود الفقري للمؤسسات والشركات الحكومية وغير الحكومية الربحية والغير ربحية.
"محاسب" صفة يطلقها اليمنيون على المحصل في باصات النقل العمومي وكاشير البقالات والمطاعم والمخابز، فهم لا يعرفون طبيعة عمل المحاسب الذي يبحر بين الأرقام، وليس لديه الوقت الكافي ليشرح لكم قصته او ماهية وأهمية عمله .
هل سألت نفسك عن مصدر أرقام البورصة وهي تصعد وتهبط بمرونة وسلاسة، ومعها تصعد وتهبط أنفاسك ان كان لك نصيب في تلك الأسواق؟
المحاسب هو المؤتمن الأمين على أموالك في تلك الشركات، ملتزما ومتسلحا بأخلاقيات المهنة حافظا لأسرارك، ويعتبر أن أي ضرر عليك يصيبة قبل أن يصيبك، هو الذي لا ينام بسبب رصيد شاذ في ميزان المراجعة وإن كان ربع سنت، فلا يهدء ولا يقر له قرار، فيعلن حربه المقدسة حتى يجد مصدر ذاك الرقم الصغير المهمل بنظرك.
بين القيود والتسويات والتكاليف المباشرة والغير مباشرة والتفاصيل الصغيرة والدقيقة يقضي يومه، انه يحتسب ويتصور تكاليف إهمالك وتقصيرك في الوقت، ويضع في الحسبان التالف الذي يقع بسبب شرودك على خط الانتاج، او الفاقد بسبب عدم احكامك اغلاق عبوة المواد الخام، وهو يدرك تماما أنك تفقد أقلامك باستمرار وتتلف أوراقا بلا حساب.
حين تتهيئ للذهاب الى البنك وتبحث عن كلام يعزز الثقة بمشروعك فتتحدث عن قدرتك على سداد القرض حين استحقاقه، يكون المحاسب قد وضع في الاعتبار افلاسك أو تهربك عن السداد، فوضع موازنة لمصاريف ملاحقتك قضائيا، ومخصصا للديون المشكوك في تحصيلها ومخصصا للديون المعدومة.
المحاسب هو الذي حين يتحدث يصمت الجميع، لأنه لا يعرف الثرثرة، ويعي قدر كل كلمة يقولها، فيتحدث عن معلومات وأرقام معززة بالوثائق والمستندات.
المحاسبة مهنة جميلة وأنيقة وثرية وغنية، يعيش ممتهنوها أعلى درجات الرضى والسعادة والتصالح مع الضمير، فهذه المهنة لا توجد فيها منطقة رمادية قد يحصل فيها الإهمال والتقصير، فلا وقت ولا مجال لذلك فخلف المحاسب جيش من المحاسبين الآخرين والمراجعين الداخليين والمدراء الماليين وصولا الى مراقب الحسابات الخارجي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق